الاثنين، 11 يناير 2010

أبو الصيدلة في السعودية عبدالرحمن الدوسري يروي قصته مع الأدوية في الزمن الصعب

الدمام: هند الصالح

قبيل نكبة فلسطين عام 1948 بسنوات، توجه شاب سعودي في الثلاثينيات من العمر، برفقة 8 من زملائه إلى العاصمة اللبنانية بيروت. والهدف كان إكمال الدراسة في الجامعة الأمريكية، ليعود بعدها ، إلى مدينته الدمام، على الساحل الشرقي، حاملاً شهادة في الطب، ومتوجا بتجربة علمية واجتماعية ثرية.
عبدالرحمن الدوسري، صاحب أول صيدلية في السعودية ، بدأ حياته بالزواج مبكرا، في سن 19 عاماً، حاله حال أقرانه في ذلك الزمان. ليلتحق بعد ذلك بشركة "أرامكو"، والتي كان اسمها حينها "شركة الزيت العربية الأمريكية"، حيث كانت تمثل مصدر جذب لشباب المنطقة الطموحين، بما لديها من تطور تقني وعلمي، وصبغة اجتماعية تحديثية، جعلت الكثيرين يرون فيها بيئة عمل مناسبة، تحقق لهم أحلامهم.
في بدايات مشواره العملي، افتتح عبد الرحمن "صيدلية الدمام"، مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، تغير اسمها لاحقاً إلى "مخزن صيدلية الدمام"، أمام مركز إمارة الدمام الحالية . فبعد مغادرته للدراسة في لبنان، تولى مهام الصيدلية ابنه محمد، الذي كان عمره حينها 16 عاماً، وساعده في إدارتها أخوه "راشد" .ويقول الدوسري غادرت المملكة بجواز سفر والدي، حيث كان سابقاً مسموحاً بذلك، ودرست الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، بعدما بعثتني أرامكو برفقة 8 من زملائي . والإقامة في لبنان، لم تقتصر على العاصمة بيروت، أو شارع "بلس"، الذي تقع فيه الجامعة، ولم تكن منطقة "الحمرا"، هي حدود عبدالرحمن، الطالب الشغوف بتعلم ما هو جديد ومفيد، وإنما أوصلته خطواته إلى مدينة "طرابلس"، في الشمال اللبناني، ليستقر في منطقة "المينا"، حيث المستشفى الذي تدرب فيه عملياً، وبقي عالقا في ذاكرته بعد أن كان شاهداً على أحداث دارت رحاها حوله، وطالت بمدفعيتها الثقيلة المبنى الذي قضى فيه زمناً، عاملاً، ومتدرباً.
ويقول الدوسري "كنا نسمع عن الحرب في فلسطين عام 1948، والتي كانت تدور بالقرب منا، حتى وصل إلينا شررها، وتعرض المستشفى الذي كنت أتدرب فيه للقصف، ولطلقات النيران".
بعد 7 سنوات من الدراسة المتواصلة في الجامعة، والحصول على البكالوريوس ، عاد الدكتور عبدالرحمن إلى السعودية، متنقلاً بين عدة مسؤوليات . ويقول "عملت مشرفاً على العيادة الصحية بميناء الملك عبدالعزيز بالدمام، كما أدرت برامج توعوية بتلفزيون "أرامكو"، ومنها برنامج "السلامة تبدأ بك"، كل ذلك يضاف لإدارتي لصيدليتي الخاصة بالدمام، والتي كنت أدفع 15 ألف ريال، إيجاراً سنوياً لمقرها".
وعن إقبال الناس على استخدام العقاقير الطبية، والأدوية الكيماوية في ذلك الزمان حيث "العطارة"، والوصفات الشعبية هي الأكثر انتشاراً قال: كان الناس يستخدمون الطرق الشعبية للعلاج، ولم يعتادوا على تناول الأدوية الطبية إلا بعد تجربتها، أو عند الضرورة الملحة. وعلى سبيل المثال، انتشر حينها وباء "الطاعون" الذي كانت لقاحاته تحضر من لبنان، وكذلك مرض "الجدري" والذي كانت تعطى لقاحاته بشكل مجاني. وفي سبيل إزالة تردد وخوف الناس، كنا نقوم بحملات توعية وإرشاد كانت إحداها لتنبيههم بأساليب الوقاية من مرض "الملاريا"، وضرورة عدم الاقتراب من مناطق المستنقعات تجنباً للبعوض الناقل للمرض، لنقوم بتطعيمهم بعد ذلك عند توفر اللقاحات. فمحاذاة الدمام للبحرين، وتمتع المدينة بميناء بحري، وحركة السفن على شواطئها، سهل عملية وصول الأدوية، والمعدات الطبية، من دول مختلفة، في عملية تستغرق أسابيع وشهوراً. وكنا نحصل على ما نحتاجه من دواء عن طريق العبّارات البحرية من الهند، أو من خلال "كتالوجات" تأتينا من لبنان لمجموعة من الأدوية، تكون عادة مكتوبة باللغة اللاتينية، التي تترجم إلى الإنجليزية، حيث يختار منها المطلوب، ومن ثم تشحن من لبنان إلى البحرين، وكنت أسافر تاليا إلى المنامة لإحضارها من هناك . فهي كانت رحلة تحتاج إلى عناية ومتابعة، نظراً لحساسية المواد، وقابليتها للتلف وكانت أغلب العبوات التي تصل ، عبارة عن "كبسولات" للكبار، و"بودر" يخلط مع الماء للأطفال. فيما كان دواء الصداع "البندول"، متوفراً كشراب، وإبر الحقن مصنوعة من الزجاج، ليتم تعقيمها في الماء المغلي، بعد استخدامها.
ويؤكد الدوسري أن ضيق يد الناس في أربعينيات، ومنتصف القرن المنصرم، دفعته للتغاضي عن كثير من زبائنه، الذين لا يدفعون مقابلاً لما يشترونه من صيدليته، ولا يطالبهم بالمال لاحقاً . تقول نادية: ابنة عبدالرحمن الدوسري، عندما نقل والدي مؤخرا للعلاج في الرياض، جاء العديد من الأشخاص لزيارته والاطمئنان عليه، دون أن تكون بيننا وبينهم صلة، سوى أنهم يكنون له محبة واحتراماً، لقاء معاملته الحسنة معهم، ومع أقرباء لهم".
ولم تنحصر فائدة دراسة عبدالرحمن للطب في بيروت، عليه وحده، بل استفاد منها قاصدوه، الذين كانوا يأتون إليه سواء في الصيدلية أو البيت. حيث كان المرضى يقومون بزيارته في منزله، لتلقي العلاج دون مقابل. وفي أحيان كثيرة كان يقوم بدور الطبيب البديل، لعدم توفر الأطباء المختصين. فعالج حالات آلام الأسنان، هو وزوجته، التي تقدمت باختبار لدى الجهات الصحية، لمنحها شهادة مزاولة عمل. وذات مرة، عالج "امرأة حامل" تعرضت لنزيف حاد، لتسمي ابنها بـ"عبدالرحمن"، تيمناً به، ووفاء له، على عنايته بها.
أربعون عاما قضاها صاحب أول صيدلية في المملكة، مزاولاً لمهنته المحببة إلى قلبه، قبل أن يتقاعد منذ عشرين عاماً خلت، ويضطر لبيع صيدليته، بثمن بخس، لم يتجاوز 250 ألف ريال، ليوصد الباب على ذكريات وقصص في حانوته القديم، يعاوده الحنين إليها بين الفينة والأخرى، وهو يشاهد حفيدته تسير على خطاه في دراسة الصيدلة، علها تُرجِع إليه شيئاً من ماضٍ يحن إليه، بين أزقة الدمام، والظهران، وبيروت، وطرابلس.

ليست هناك تعليقات: